الفصل الرابع الأسرة كوسيط تربوي؟
مقدمة: لعل كل مشتغل بالعلوم الاجتماعية على اتساعها وتشعبها يدرك بوضوح مدى اهتمام الحضارات الإنسانية بالأسرة قديمة وحديثا ولكن الاهتمام تتنوع وتتباين فمن اهتمامات إنسانية إلى أخرى أخلاقية إلى ثالثة تأملية إلخ وهي جميعاً اتجاهات بعيدة بعداً شديداً عن الاهتمامات العلمية الموضوعية التي يحاول العلماء المعاصروة تأصيلها وتدعيمها وتطويرها ويأتي الاهتمام بالأسرة مواكباً لما تقوم به من وظائف في حياة الأفراد والمجتمعات فالأسرة مؤسسة فريدة في تربيتها وتنشئتها للأجيال الطالعة ولا يمكن لمؤسسة أخرى أن تباشر مهامها في عملية التنشئة الاجتماعية بنفس المقدرة والكفاءة والأسرة تتوسط بين الفرد والمجتمع فمن ناحية تنقل ثقافة المجتمع إلى وعي الأفراد ومن ناحية أخرى تزود أفرادها بالأدوار التي تمكنهم من التفاعل والتعامل مع المؤسسات الاجتماعية وهكذا تصبح الأسرة صورة مصغرة المجتمع الكبير إذ العلاقات السائدة في المجتمع هي التي تسود في الأسرة والطابع القومي للثقافة ينطبع على أعضائها والمشكلات التي تعترض الأسرة هي ذاتها مشكلات المجتمع الكبير ويعول علماء التربية والاجتماع كثيراً على إمكانيات الأسرة وقوتها الذاتية في التصدي لتلك المشكلات وذلك انطلاقاً من كون الأسرة جماعة تربوية قادرة على اتخاذ قرارات رشيدة وإتباع سياسات تحقق مصالح أفرادها وهنا يبرز مصطلح إدارة الأسرة للتعبير عن مجموعة الأساليب وأنماط القيادة التي تمكن الأسرة من عبور أزماتها وتحقيق أهدافها كذلك فإن الإدارة الرشيدة تعد الركيزة الأساسية في تحقيق التكامل الأسري والذي يعد بدوره أساس لتحقيق التكامل الاجتماعي.
أولاً : ماهية الأسرة ومكانتها وطبيعة عملها؟
قبل الدخول إلى تفاصيل الدور التربوي للأسرة فمن الأهمية أن نعرض لماهية الأسرة ومكانتها وطبيعة عملها ومن تلك التعريفات الأسرة كوسيط تربوي والأسرة كجماعة أولية والأسرة كإطار والأسرة كوسيط تربوي تعبير عن توسطها بين المجتمع والأفراد في نقل جوانب الثقافة الاجتماعية ومباشرة عملية التنشئة والتطبيع الثقافي وهي في عملها متوسط أيضاً بين نمطين من التربية يظهران في حياة الفرد نمط يتسم بالتلقائية والعفوية وإتباع أساليب وطرائق غير مقصودة وغير مقننة إلى حد كبير ثم نمط التربية المدرسية فيما بعد والتي تطوى على مزيد من التقنين والقصدية والضبط الذي يتضح في نظام المدرسة وعليها فالأسرة على ذلك بمثابة وسيط في مرحلة التحول بالفرد من كونه كائن بيولوجي إلى أن يصبح كائن اجتماعي قادر على متطلبات الثقافة وادراك عناصرها ومن مجرد كائن بالقوة أتى إلى هذا العالم لا يملك من أمره شيئاً إلى أن يصبح كائنا بالفعل له هويته وكينونته والتي تتضح في قدرته على الاختيار والتعبير عن وذاته وإصدار الأحكام أيضاً.
ومفهوم الأسرة كوسيط تربوي اقترن في علم الاجتماع العائلي بمفهوم آخر أعنى الأسرة كجماعة أولية والتي أشار إليها تشارلز كولي في كتابه التنظيم الاجتماعي الصادر عام 1909م وخلاصة رأيه أن الجماعات الأولية الأسرة جماعة الجوار المجتمع المحلي جماعات الرفاق هي: جماعات تؤثر على الشخص في مراحله الأولى سابقة بذلك أي جماعة أخرى حيث تعد المسئولية عن بناء الشخصية الاجتماعية الثقافية وأن تأثرها ينفذ إلى أعماق شخصية الفرد ويمسها في مجموعها وعلى خلاف الجماعات الثانوية أو الاتحادات بالمعنى الواسع والتي يقتصر تأثرها من جانب واحد بعينه من جوانـ حياة الفرد وهكذا يمكننا القول بأهمية الأسرة كجماعة أولية تتحدد ذات الوقت من كونها جماعة تربوية لها دور تربوي يتحدد في ضوء أهداف الثقافة ومحدداتها وأن هذا الدور لا يقتصر على عملية التنشئة الاجتماعية فحسب وإنما يمتد ليصبح دور ثقافي أشمل يتم بمقتضاه نقل التراث الثقافي من جيل إلى الجيل التالي ولعل هذا الفهم هو الذي حدا ببعض الباحثين إلى التأكد على دور الأسرة الهام في صياغة وتكوين الشخصية الأساسية في كل ثقافة من الثقافات المختلفة أو ما يطلق عليه الطابع القومي أو الشخصية القومية ونظراً لما تضطلع به الأسرة من دور تربوي مؤثر وفعال فلقد اعتبرها كثير من علماء الاجتماع والتربية الجماعة المرجعية
تزويد الأفراد بخبرات الثقافة التطبيع الثقافي إن نقل قيم وخبرات الثقافة إلى وعي الأفراد يعبر عن أهم جوانب الدور التربوي للأسرة ويتحليل هذا الجانب فالأسرة هي نسق فرعي للثقافة الأم يعكس طرق العيش والتفكير وأنواع القيم والعادات السائدة والأعراف والمحرمات وأساليب الضبط وطرق الاحتفال وغير ذلك فالأسرة هنا وسيط لنقل التراث الثقافي وأداة للحفاظ على ثقافة المجتمع بل عامل في تحديد تلك الثقافة أيضاً.
ولما كانت الثقافة التي يولد فيها المرء ثقافة واسعة متنوعة لا تستطيع الأسرة أن تنقلها بحذافيرها فإنها تقوم بثلاث وظائف أنها تختار من الثقافة العامة ما تنقله إلى الطفل أنها تفسر للطفل ما تنقله أنها تقيم ما تنقله للطفل أي تعطيه قيمة وهكذا يمكن القول بأن ما يدخل في خبرات الأسرة من مكونات الثقافة ينطبع على أعضائها كنتاج لتلك الخبرات وأن هذا النتاج للثقافة يؤثر على نوع التنشئة الاجتماعية التي يمر بها الطفل وعلى اكتسابه اللغة ونموه الانفعالي وأنماط القيم والاتجاهات التي يتشبع بها وربما يطلق بعض المربين على هذا الدور الثقافي للأسرة بعملية التطبيع الثقافي وهي عملية ذات تأثير بالغ الأهمية في سائر العمليات المرتبطة بالثقافة والتي يندرج فيها بعمل مثل عمليات الاحتكاك الثقافي والتغيير الثقافي والتجديد الثقافي وغير ذلك من عمليات يتفاعل فيها المرء مع أعضاء الثقافة الآخرين ومن هنا قد تتسم تفاعلات الأفراد مع الثقافة بالحيوية والاتساق وقد يسودها التناقض ومن ثم تنشأ عملية التطبيع الثقافي داخل الأسرة قيمتها روفاعليتها الاستجابة لمتطلبات الفرد البيولوجية ويعد هذا الجانب من أكثر جوانب الدور التربوي للأسرة أهمية ويرتبط أساساً بالأسلوب الذي تشبه به الأسرة حاجات الطفل ويتم وفقاً للمبدأ البيولوجي العام الذي يقول بازدياد القابلية للتشكيل أو ازدياد المطاوعة كلما كان الطفل صغيراً ، ويتأيد هنا المبدأ في ضوء الشواهد والتجارب التي تؤكد أهمية ما تقدمه الأسرة للطفل في سن حياته الأولى هذا وترتبط الوظيفة البيولوجية للأسرة بوظائف التنشئة الأخرى وتؤثر عليها فمثلاً وجد أن الأطفال الذين يحرمون من عناية الأم ويقوم على تنشئتهم المربيات أطفال غير مشبعين من الناحية العاطفية ويختلفون في بعض عاداتهم عن الأطفال الذين يلتصقون بأمهاتهم.
إشباع الحاجات النفسية للأبناء من الثابت أن أثر الأسرة على الطفل يتضح بصفة خاصة في توفير الجو النفسي الملائم والدور الذي يقوم به المنزل في عملية النمو النفسي يكون بلا شك في الأعمار التي يكون فيها الطفل معتمدا كلية على الأسرة ولكنه يقل بالتدريج كلما نما وكبر، وأصبح تحت تأثير ظروف أخرى.
والطفل في نموه وكذا المراهق بحاجة دائمة إلى الشعور بالأمن و الانتماء إلى جماعة وأنه مرغوب فيه من أفراد هذه الجماعة الذات حب العاطفي لشخصيات الأبناء وذلك بضبط عواطف كالغيرة والتسلط وتنمية عواطف خيرة كعواطف الصداقة والتعاون والإحسان هذا ويتحقق النمو العاطفي المتوازن عبر علاقات الحب والتقدير التي تربط أفراد الأسرة بعضهم ببعض ومن يتصل بهم ومن الأهمية الإشارة إلى تأثير جملة من العوامل الأسرية على فاعلية النمو العاطفي للأبناء من أهمية العوامل الاقتصادية الوضع الديني وكلاهما أيضا بحاجة إلى الشعور بأن المنزل والوالدين في عونه إذا احتاج إلى السند وأنهما يساندانه إذا احتاج إلى هذا السند ويتجلى دور الأسرة في إشباع الحاجات النفسية في تربية الجانب المستوى الثقافي والتعليمي للأسرة وغيرها ومن الملاحظات الجوهرية في مسألة الإشباع النفسي لحاجات الأبناء أن الفرد وبخاصة في السياق المعاصر يتحتم أن يمر بسنوات طويلة من الدراسة والتدريب قبل أن يصبح مؤهلاً لشغل عمل منتج وهذا يعني تأخير استقلال الفرد عن الأسرة اقتصادياً واعتماده عليها من ناحية نفسية.